في مدينة العقبة، حيث يلتقي الموج بالرمل، ثمة صوت لا يغيب عن ذاكرة البحر ولا يمحوه ضجيج الحداثة؛ إنه صوت “السمسمية”. هذه الآلة البسيطة في تكوينها، العميقة في تأثيرها، التي شكلت عبر العقود وجدان المجتمع البحري، لتصبح الخيط الرفيع الذي يربط ماضي المدينة العريق بحاضرها المتطور.
رفيقة البحارة وذاكرة الشاطئ
تاريخياً، لم تكن السمسمية مجرد آلة طرب عابرة، بل كانت “أنيس الوحدة” للصيادين والبحارة في رحلاتهم الطويلة وسط الأمواج. بأوتارها الخمسة أو السبعة، كانت تنسج ألحان الفرح وتبدد عناء البحر، مرافقةً جلسات السمر المسائية على الشاطئ.
تحولت هذه الآلة بمرور الزمن من أداة موسيقية إلى هوية ثقافية وطقس اجتماعي متجذر؛ فهي الحاضرة دائماً في الأفراح، والمناسبات الوطنية، وفي ساحات العقبة القديمة التي لا تزال جدرانها تردد صدى تلك الأهازيج.
حماية التراث: “بيت السمسمية” وقاعدة بيانات
في مواجهة تحديات الاندثار، تقود المؤسسات الثقافية في العقبة حراكاً جاداً للحفاظ على هذا الإرث. وفي حديث لوكالة الأنباء الأردنية (بترا)، أكد طارق البدور، مدير مديرية ثقافة العقبة، أن المديرية تضع توثيق وحماية السمسمية على رأس أولوياتها كجزء أصيل من الهوية البحرية للمدينة.
وكشف البدور عن جهود مؤسسية ملموسة شملت:
- قاعدة بيانات شاملة: تم رصد نحو 60 عازفاً من مختلف الأجيال في العقبة، مما يعكس استمرارية هذا الفن.
- مشروع “بيت السمسمية”: مبادرة أطلقتها وزارة الثقافة قبل عامين، تهدف إلى مأسسة هذا الفن عبر إعداد منهج أكاديمي للتدريس، وتنظيم برامج تدريبية للشباب والفتيات.
- ورش التصنيع: إقامة ورش متخصصة لتعليم الهواة كيفية صناعة الآلة يدوياً، لضمان استدامة الحرفة.
ولفت البدور إلى ظاهرة إيجابية تتمثل في الإقبال اللافت من الجيل الجديد، وخصوصاً الفتيات، على تعلم العزف خلال الفعاليات التدريبية في عامي 2023 و2024.
من التراث إلى الحداثة: تطوير الآلة
من جانبه، يقدم العازف المخضرم سفيان جاسر، أحد أعمدة هذا الفن في العقبة، رؤية فنية عميقة. يرى جاسر أن التعامل مع السمسمية يجب أن ينطلق من كونها “قيمة تراثية” قبل أن تكون آلة موسيقية.
وعن الجانب التقني، أوضح جاسر أن السمسمية التقليدية (ذات الستة أوتار) تعزف على مقام واحد ومساحة صوتية محدودة (من “دو” إلى “لا”). إلا أن شغفه بهذا الإرث دفعه للابتكار، حيث قام بتطوير نسخة حديثة تضم 19 وتراً، مما أتاح للعازفين مساحة أوسع لأداء مختلف المقامات الموسيقية المعاصرة دون الإخلال بروح الآلة الأصيلة.
جسر بين زمنين
اليوم، تقف السمسمية في العقبة كجسر حي بين الماضي والحاضر. فرغم النهضة العمرانية والاقتصادية التي تشهدها المدينة، لا يزال صوت أوتارها يصدح في الأرجاء، شاهداً على أصالة المكان، وراوياً لقصة عشق أبدية بين أهل العقبة وبحرهم.
